فصل: خلافة المعتمد على الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة المعتمد على الله:

وهو خامس عشرهم، لما خلع المهتدي وقُتل، أخرج كبراء الدولة، أبا العباس أحمد بن المتوكل من الحبس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب المعتمد على الله، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
وفي هذه السنة ملك صاحب الزنج الأبله عنوة. وقتل من أهلها خلقاً كثيراً وأحرقها، وكانت مبنية بالساج، فأسرعت النار فيها، ثم استولى على عبادان بالأمان ثم استولى على الأهواز بالسيف، وفيها عزل عيسى بن الشيخ عن الشام، وكان قد استولى عليه، وقطع الحمل عن بغداد، كما ذكرنا، فعقد لعيسى على أرمينية، وولى أماجور الشام، فسار واستولى عليه، بعد أن جرى بينه وبين أصحاب عيسى قتال شديد، انتصر فيه أماجور واستقر أميراً بالشام.
وفي هذه السنة توفي الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي صاحب المسند الصحيح، الذي هو الدرجة العالية في الصحة، المتفق على تفضيله والأخذ منه، والعمل به، ورحل في طلب الحديث إلى الأمصار، وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة لثلاث عشرة خلت من شوال. قال البخاري: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب، ابن عشر سنين، فلما بلغت ثماني عشرة سنة صنفت قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب التاريخ، إذ ذاك، عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخرجت الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما أدخلت فيه إلا ما صح.
وورد مرة إلى بغداد، فعمد أهل الحديث إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، ووضعوا عشرة أنفس، فأورد واحد بعد آخر الأحاديث المذكورة، والبخاري يقول في كل حديث منها: لا أعرفه. فلما فرغوا قال: أما الحديث الأول فهو كذا، ورده إلى حقيقته، وأما الثاني فهو كذا، حتى ذكرها عن آخرها على حقيقتها.
ووقع بين البخاري وأمير بخارى واسمه خالد وحشة، فدسّ خالد من قال إن البخاري يقول بخلق الأفعال للعباد، وبخلق القرآن فتبرأ البخاري من ذلك وأنكره، وعظم عليه فارتحل، ونزل عند بعض أقاربه، بقرية من قرى سمرقند على فرسخين منها، اسمها خرشك فمات بها ليلة عيد الفطر من هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين:
فيها أخذ الزنج البصرة، وقتلوا بها كل من وجدوه، وخربوها. وفي هذه السنة ملك يعقوب الصفار بلخ، ثم سار إلى كابل، فاستولى عليها، وأرسل هدية إلى الخليفة، وفيها أصنام من تلك البلاد. وفي هذه السنة قصد الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان جرجان وملكها وفيها قُتل محمد بن خفاجة أمير صقلية، قتله خدَمه كما تقدم ذكره سنة سبع وأربعين ومائتين، واستعمل محمد بن أحمد الأغلبي صاحب إفريقية على صقلية أحمد بن يعقوب. وفيها توفي العباس بن الفرج الرياشي اللغوي.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين:
في هذه السنة أرسل المعتمد أخاه الموفق، أبا أحمد إلى قتال الزنج.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين:
في هذه السنة استولى يعقوب الصفار على نيسابور وملكها. وفيها توفي محمد بن موسى بن شاكر، أحد الأخوة الثلاثة الذين ينسب إليهم جيل بني موسى المشهورين، واسم أخويه أحمد والحسين، وكان لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة، وكان الغالب عليهم الهندسة والحيل والموسيقى، ولما بلغ المأمون من كتب الأوائل أن ثور الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، أراد تحقيق ذلك، فأمر بني موسى المذكورين بتحرير ذلك، فسألوا عن الأراضي المتساوية، فأخبروا بصحراء سنجار ووطاة الكوفة، فأرسل معهم المأمون جماعة يثق إلى أقوالهم، فساروا إلى صحراء سنجار؛ وحققوا ارتفاع القطب الشمالي، وضربوا هناك وتداً، وربطوا فيه حبلاً طويلاً ومشوا إلى الجهة الشمالية على الاستواء، من غير انحراف حسب الإمكان، وبقي كلما فرغ حبل نصبوا في الأرض وتداً آخر؛ وربطوا فيه حبلاً آخر كفعلهم الأول، حتى انتهوا كذلك إلى موضع قد زاد فيه ارتفاع القطب الشمالي المذكور درجة محققة، ومسحوا ذلك القدر، فكان ستة وستين ميلاً، وثلثي ميل، ثم وقفوا عند موقفهم الأول، وربطوا في الوتد حبلا، ومشوا إلى جهة الجنوب من غير انحراف، وفعلوا ما شرحناه، حتى انتهوا إلى موضع قد انحط فيه ارتفاع القطب الشمالي درجة، ومسحوا ذلك القدر، فكان ستة وستين ميلا وثلثي ميل، ثم عادوا إلى المأمون وأخبروه بذلك، فأراد المأمون تحقيق ذلك في موضع آخر، فصيرهم إلى أرض الكوفة، فساروا إليها وفعلوا كما فعلوا في أرض سنجار، فوافق الحسابان، وعادوا إلى المأمون، فتحقق صحة ذلك، وصحة ما نقل من كتب الأوائل، لمطابقة ما اعتبره، ثم ضربوا الأميال المذكورة في ثلاثمائة وستين، وهي درج الفلك، فكان الحاصل أربعة وعشرين ألف ميل، وهو دور الأرض. أقول: كذا نقله ابن خلكان. ونقل غيره من المؤرخين أن الذي وجد في أيام المأمون لحصّة الدرجة ستة وستون ميلاً وثلثا ميل، وهو غير صحيح، فإن ذلك هو لحصة الدرجة على رأي القدماء وأما في أيام المأمون فإنه وجد حصة الدرجة ستة وخمسين ميلاً، وقد تحقق ذلك في علم الهيئة.
ثم دخلت سنة ستين ومائتين:
فيها قتلت العرب منجور والي حمص، واستعمل عليها بكتمر. وفيها توفي مالك بن طوق الثعلبي بالرحبة، وهو الذي بناها والذي تنسب إليه فيقال رحبة مالك. وفيها توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو المعروف بالعسكري، وهو أحد الأئمة الاثني عشر، على مذهب الإمامية. وهو والد محمد المنتظر من سرداب سرمن رأى على زعمهم، وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين حسبما تقدم ذكره، في سنة أربع وخمسين ومائتين. وفيها توفي الحسن بن الصباح الزعفراني الفقيه، وهو من أصحاب الشافعي البغداديين. وفيها توفي حنين بن إسحاق، الطبيب العبادي، وهو الذي نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية، وكان عالماً بها، وهو الذي عرّب كتاب إقليدس، وكتاب بطليموس المجسطي وأصلحهما، ونقحهما، والعبَادي بكسر العين المهملة وفتح الباء الموحدة من تحتها هذه النسبة إلى عباد الحيرة، وهم عدة بطون من قبائل شتى، نزلوا الحيرة، وكانوا نصارى، ينسب إليهم خلق كثير، منهم عدي بن زيد العبادي.
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين:
ولاية نصر بن أحمد الساماني ما وراء النهر وابتداء أمر الساماني:
في هذه السنة استُعملَ نصر بن أحمد بن أسد بن سامان أخذه بن جثمان بن طغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين، وهو بهرام جوبين الذي ذكر في أخبار كسرى برويز، وكان لأسد بن سامان أربعة أولاد هم نوح، وأحمد، ويحيى، وإلياس، وكانوا في خراسان حين تولى عليها المأمون بن الرشيد، فأكرم المأمون أولاد أسد بن سامان، الأربعة المذكورين، وقدّمهم واستعملهم. ولما رجع المأمون من خراسان إلى العراق، استخلف على خراسان غسان بن عباد، فولى غسان المذكور؛ أحمد بن أسد فرغانة، في سنة أربع ومائتين، ويحيى بن أسد الشاش مع أسرشة وولى إلياس بن أسد هراة، وولى نوح بن أسد سمرقند، ولما تولى طاهر بن الحسين على خراسان، أقرهم على هذه الأعمال، حسبما كان قد ولاهم غسان بن عباد عليه، ثم مات نوح ابن أسد ثم مات بعده إلياس بهراة، فاستقر على عمله ابنه محمد بن إلياس. وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين، وهم نصر ويعقوب ويحيى وأسد وإسماعيل وإسحاق وحميد، ثم مات أحمد بن أسد، فاستخلف ابنه نصراً على أعماله، وكان إسماعيل ابن أحمد يخدم أخاه نصراً، فولاه نصر بخارى. في هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين ومائتين:
ثم بعد ذلك، سعت السعاة بين نصر وأخيه إسماعيل، فأفسدوا ما بينهما، حتى اقتتلا سنة خمس وسبعين ومائتين، فظفر إسماعيل بأخيه نصر، فلما حمل إليه، ترجل له إسماعيل وقبل يده، ورده إلى موضعه، واستمر إسماعيل ببخارى، وكان إسماعيل رجلا خيراً يحب أهل العلم ويُكرمُهم، فلذلك دام ملكه وملك أولاده، وطالت أيامهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة عصى أهل برقة على أحمد بن طولون، فجهز إليهم جيشاً، فحاصروا برقة، وفتحوها، وقبضوا على جماعة من رؤسائهم.
وفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية، في جمادى الأولى. وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر ونصفاً. وتولى بعده أخوه إبراهيم بن أحمد بن محمد، ثم سار إبراهيم بن أحمد بن محمد إلى صقلية، وفتح الفتوحات العظيمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتوفي إبراهيم بالذرب ليلة السبت، لإحدى عشرة بقيت من ذي القعدة، سنة تسع وثمانين ومائتين بصقلية، رحمه الله تعالى، وجعل في تابوت، وحمل إلى إفريقية، ودفن بالقيروان، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة، وكان له فطنة عظيمة، وتصدق بجميع ماله.
وفي هذه السنة توفي الحسن بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قاضي القضاة، وهو من ولد عتاب بن أَسيد، الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها ثم دال مهملة.
وفيها توفي أبو يزيد البسطامي الزاهد، واسمه طيفور بن عيسى بن سروبيان، وكان سروبيان مجوسياً فأسلم وفي هذه السنة توفي أبو الحسين مسلم ابن الحجاج النيسابوري صاحب المسند الصحيح. رحل إلى الأمصار لسماع الحديث. قال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة، ولما قدم البخاري إلى نيسابور لازمه مسلم، ولما وقعت للبخاري مسألة خلق اللفظة انقطع الناس عنه إلا مسلماً. وقال مسلم للبخاري: دعني أُقتل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث.
ثم دخلت سنة اثنين وستين ومائتين:
في هذه السنة، أرسل الخبيث صاحب الزنج، جيشاً إلى جهة بطايح واسط، فقتلوا وسبوا وأحرقوا. وفيها مات عمر بن شيبة.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين:
في هذه السنة، استولى يعقوب الصفار على الأهواز.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين:
في هذه السنة مات أماجور مقطع دمشق، وسار أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق، ثم إلى حمص، ثم إلى حماة، ثم إلى حلب، فملكها جميعها، ثم سار أحمد بن طولون إلى إنطاكية، ودعا سيما الطويل أمير إنطاكية إلى الدخول في طاعته، فأبى، فقاتله أحمد وملك إنطاكية عنوة، وقاتل سيما قتالاً شديداً حتى قتل، ثم رحل أحمد إلى طرسوس، وعزم على المقام بها للجهاد، فغلا بها السعر وقلّ القوت، فرجع إلى الشام.
وفي هذه السنة خرج بالصين خارجي مجهول النسب والاسم وعظيم جمعه، فقصد مدينة خانقو من الصين، وحصرها، وهي حصينة، ولها نهر عظيم، وبها عالم كثير من المسلمين، والنصارى، واليهود، والمجوس، وغيرهم من أهل الصين، ففتحها عنوة، وقتل من أهلها ما لا يحصى، واستولى على شيء كثير من بلاد الصين، ثم عدم الخارجي المذكور في حرب ملك الصين، وانهزمت أصحابه فلم يجتمع بعد ذلك.
وفي هذه السنة فرغ إبراهيم بن أحمد بن محمد الأغلبي صاحب إفريقية من بناء مدينة رقادة، وانتقل إليها وسكنها.
وكان قد ابتدى في بنائها سنة ثلاث وستين ومائتين:
وفي هذه السنة ماتت قبيحة أم المعتز. وفيها مات أبو إبراهيم الزني صاحب الشافعي. وفيها توفي في مصر يونس بن عبد الأعلى بن موسى أحد أصحاب الشافعي، وكان مولده سنة سبعين ومائة، وكان يهوى يونس المذكور للشافعي.
ما حك جلدكَ مثل ظفركْ ** فتول أنتَ جميع أمركْ

وإذا قَصدتَ لحاجةٍ ** فاقْصدْ لمعترفٍ بقدركْ

وقال: سمعت الشافعي يقول: رضى الناس غاية لا تدرك، فانظر ما فيه صلاح نفسك. في أمر دينك ودنياك، فالزمه.
وعبد الرحمن، مؤلف تاريخ مصر المشهور، هو ولد يونس المذكور، وهو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى المذكور.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين:
فيها دخل الزنج النعمانية، وسبوا وأحرقوها، ثم صاروا إلى جرجرايا، ودخل أهل السواد بغداد.
موت يعقوب الصفار وفي هذه السنة، مات يعقوب بن الليث الصفار، تاسع عشر شوال، بجنديسابور، من كور الأهواز، وكانت علته القولنج، فوصف له الحكماء الحقنة، فلم يحتقن، وكان المعتمد قد أرسل إليه رسولا، وكتاباً يستمليه، ويعقوب مريض، فأحضر الرسول وجعل عنده سيفاً، ورغيفاً من الخشكار، وبصلا، وقال الرسول: قل للخليفة إن مت، فقد استراح مني واسترحت منه، وإنْ عوفيت، فليس بيني وبينه إلا هذا السيف، وإنْ كسرني وأفقرني، عدت إلى أكل هذا الخبز والبصل.
وكان يعقوب قد افتتح الرخُج، وقتل ملكها، وأسلم أهلها على يده، وكان ملك الرخج يجلس على سرير ذهب، ويدَّعي الإلهية، وكان يعقوب حازماً عاقلاً، وكان يعمل الصفر في مبتدأ أمره، فقيل له الصفار لذلك. وصحب في حداثته رجلاً من أهل سجستان، كان مشهوراً بالتطوع في قتال الخوارج، يقال له صالح بن النضر الكناني، ثم هلك صالح المذكور، فتولى مكانه درهم بن الحسين، فصار يعقوب مع درهم كما كان مع صالح، وكان درهم غير ضابط لأمور العسكر، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه، اجتمعوا على يعقوب بن الليث الصفار المذكور، وملكوه أمرهم، فلما تبين ذلك لدرهم لم ينازعه، وسلم الأمر إليه، فاستبد يعقوب بالأمر، وقويت شوكته، واستولى على البلاد، على ما تقدم ذكره، في مواضعه، من السنين.
ولما مات يعقوب، قام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث، وكتب إلى الخليفة بطاعته، فولاه الموفق خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان، وسير إليه الخلع مع الولاية. وفي هذه السنة توفي إبراهيم بن هاني بن إسحاق النيسابوري، وكان من الأبدال.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين:
في هذه السنة قتل أهل حمص عاملهم، عيسى الكرخي. وفي هذه السنة كان الناس في البلاد التي تحت حكم الخليفة في شدة عظيمة، بسبب تغلب القواد والأجناد على الأمر، لقلة خوفهم، وأمنهم من الإنكار على ما يفعلونه، لاشتغال الموفق بقتال صاحب الزنج، ولعجز الخليفة المعتمد واشتغاله بغير تدبير المملكة.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين:
في هذه السنة كان بين الموفق أخي الخليفة، وبين الخبيث صاحب الزنج حروب كثيرة يطول شرحها، وكشف الزنج عن الأهواز، واستولى عليها، ثم سار الموفق إلى مدينة صاحب الزنج، وكان قد حصنها إلى غاية ما يكون، وسمّاها المختارة، وحاصرها الموفق، فخرج أكثر أهلها إليه بالأمان، وضعف الباقون عن حفظها، فسلموها بالأمان.
وفي هذه السنة ولي صقلية الحسن بن العباس، فبث السرايا إلى كل ناحية.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين وسنة تسع وستين ومائتين:
في هذه السنة حالف لؤلؤ غلام أحمد بن طولون على مولاه أحمد بن طولون، وكان في يد لؤلؤ حلب وحمص وقنسرين وديار مضر من الجزيرة، وكاتب الموفق في المسير إليه، ثم سار إليه.
وفي هذه السنة أمر المعتمد بلعن أحمد بن طولون على المنابر، لكونه قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز، وإنما أمر المعتمد بذلك مكرهاً، لأن هواه كان مع ابن طولون، ولم يكن للمعتمد من الأمر شيء، بل الأمر لأخيه الموفق، وكان المعتمد قد قصد اللحوق بأحمد بن طولون بمصر، لينجده على أخيه الموفق، وسار عن بغداد لما كان أخوه مشتغلاً في قتال الزنج، فأمسك إسحاق بن كنداج عامل الموصل القواد الذين كانوا صحبة المعتمد، وأرسلهم إلى بغداد، وتقدم إلى المعتمد بالعَود، فلم يمكنه مخالفته بعد إمساك قواده، فرجع إلى سامراء.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين:
في هذه السنة قتل صاحب الزنج لعنه الله بعد قتل وغَرق غالب أصحابه، وقُطع رأسه، وطيف به على رمح، وكثر ضجيج الناس بالتحميد، ورجع الموقف إلى موضعه، والرأس بين يديه، وأتاه من الزنج عالم كثير يطلبون الأمان، فأمنهم، ثم بعث برأس الخبيث إلى بغداد، وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء، لأربع بقين من رمضان، سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر، سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام.
وفي هذه السنة توفي الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، في رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وكسراً، وولي مكانه أخوه محمد بن زيد.
وفاة أحمد بن طولون:
وفي هذه السنة توفي أحمد بن طولون، صاحب مصر والشام، بعد مسيره إلى طرسوس، ورجوعه منها، ولما وصل إلى إنطاكية، قُدم له لبن جاموس، فأكثر منه، فأصابه منه تخمة، واتصلت به حتى صار منها ذرب، حتى مات، وكانت إمارته نحو ست وعشرين سنة، وكان حازماً عاقلاً، وهو الذي بنى قلعة يافا، ولم يكن لها قبل ذلك قلعة، وبنى بين مصر والقاهرة الجامع المعروف به، وهو جامع عظيم مشهور هناك، وولى بعده ابنه خمارويه.
وفي هذه السنة توفي محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني، وداود بن علي الأصفهاني، إمام أصحاب الظاهر، وكان مولده سنة اثنتين ومائتين، وكان إماماً مَجتهداً ورعاً زاهداً، وسمي هو وأصحابه بأهل الظاهر، لأخذهم بظاهر الآثار والأخبار، وإعراضهم عن التأويل، وكان داود لا يرى القياس في الشريعة، ثم اضطر إليه، فسماه دليلاً، وله أحكام خالف فيها الأئمة الأربدة، منها أنه قال: الشرب خاصة في آنية الذهب والفضة حرام، ويجوز الأكل والترضي، وغيرهما من الانتفاعات بها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما قال: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه، نار جهنم»، وله مثل ذلك كثير.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين:
في هذه السنة جرت وقعة بين ابن الموفق، وهو المعتضد، وبين خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر. آخرها أن المعتضد انهزم هو وأصحابه، وكانت الوقعة بين دمشق والرملة، وانهزم خمارويه إلى حدود مصر، وثبت عسكره، ولم يعلموا بهزيمته، وانهزم المعتضد، ولم يعلم بهزيمة خمارويه.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين وسنة ثلاث وسبعين ومائتين:
في هذه السنة توفي محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، سلخ صَفَر. وكان عمره نحو خمس وستين سنة، وكانت ولايته أربعاً وثلاثين سنة وأحد عشر شهراً. لأنه تولى في سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وخلف ثلاثة وثلاثين ذكراً، لما مات وليَ بعده ابنه المنذر بن محمد، وبويع له بعد موت أبيه بثلاث ليال. وفيه هذه السنة مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب كتاب السنن، وفيها توفي خالد بن أحمد السدوسي، وكان أمير خراسان، وقصد الحج، فقبض عليه المعتمد وحبسه، فمات في الحبس في هذه السنة، وهو الذي أخرج البخاري صاحب الصحيح من بخارى، فدعا عليه البخاري، فأدركته الدعوة.
وفيها توفي الحافظ محمد بن يزيد بن ماجة القويني المشهور، مصنف كتاب السنن في الحديث. وكان إماماً في الحديث، عارفاً بعلومه، وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والشام ومصر والري، لطلب الحديث، وله تفسير العظيم، وتاريخٌ أحسنَ فيه. وكتابه في الحديث أحد الكتب الستة الصحاح، ولادته سنة تسع ومائتين:
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين، وسنة خمس وسبعين ومائتين:
في هذه السنة قبض الموفق على ابنه المعتضد، واستمر في الحبر حتى خرج في مرض الموفق الذي مات فيه.
وفيها توفي المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي بن هشام الأموي صاحب الأندلس، في المحرم، وكانت ولايته سنة وأحد عشر شهراً، وكان عمره نحو ست وأربعين سنة، وكان أسمر بوجهه أثر جدري. ولما مات بويع أخوه عبد الله بن محمد.
وفي هذه السنة توفي أبو سعيد الحسين بن الحسن بن عبد الله البكري النحوي اللغوي المشهور، صاحب التصانيف.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين:
فيها مات عبد الملك بن محمد الرقاشي.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين:
فيها مات يعقوب بن سفيان النسائي الإمام، وكان يتشيع. وفيها توفيت عُريب المغنية المأمونية.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين:
وفاة الموفق بالله:
فيها توفي أبو أحمد طلحة الموفق بالله بن جعفر المتوكل، وكان قد حصل في رجله داء الفيل وطال به، وضجر، فقال يوماً: قد اشتمل ديواني على مائة ألف مرتزق، ما فيهم أسوأ حال مني، ومات الموفق يوم الأربعاء، لثمان بقين من صفر، من هذه السنة، وكان الموفق قد بويع له بولاية العهد، بعد المفوض بن المعتمد، فلما مات الموفق، اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس المعتضد بن الموفق، بولاية العهد بعد المفوض، واجتمع عليه أصحاب أبيه وتولى ما كان أبوه يتولاه.
ابتداء أمر القرامطة:
وفي هذه السنة تحرك بسواد الكوفة، قوم يعرفون بالقرامطة، وكان الشخص الذي دعاهم إلى مذهبه ودينه قد مرض بقرية من سواد الكوفة، فحمله رجل من أهل القرية، يقال له كرميته، لحمرة عينيه، وهو بالنبطية اسم لحمرة العين، فلما تعافى شيخ القرامطة المذكور، سمي باسم ذلك الرجل، ثم خفف فقالوا قرمط، ودعا قوماً من أهل السواد والبادية، ممن ليس لهم عقل ولا دين إلى دينه، فأجابوا إليه، وكان ما دعاهم إليه، أنه جاء بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان، وهو من قرية يقال لها نصرانة إنه داعية المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل، وإن المسيح تصور في جسم إنسان وقال: إنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الدابة، وإنك يحيى بن زكريا، وإنك روح القدس. وعرفه أنّ الصلاة أربع ركعات، ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن: الله أكبر ثلاث مرات، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحاً رسول الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أشهد أن عيسى رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله، والقبلة إلى بيت المقدس، وأن الجمعة يوم الاثنين، لا يعمل فيها شيئاً، ويقرأ في كل ركعة الاستفتاح، وهو المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المنجد لأوليائه بأوليائه، قل إن الأهلة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد السنين، والحساب والشهور والأيام، وباطنها لأوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي، واتقوني يا أولي الألباب، وأنا الذي لا أُسأل عما أفعل، وأنا العليم الحليم، وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي ومحبتي واختياري، أدخلته في جنتي وأخلدته في نعيمي، ومن زال عن أمري، وكذب رسلي، أخلدته مهاناً في عذابي، وأتممت أجلي وأظهرت أمري على ألسنة رسلي، وأنا الذي لم يعل جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا ذللته، وبئس الذي أصر على أمره، ودام على جهالته، وقال: لن نبرح عليه عاكفين، وبه موقنين، أولئك هم الكافرون، ثم يركع. ومن شرائعه أن يصوم يومين من السنة، وهما المهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غسل من جنابة، لكن الوضوء كوضوء الصلاة، وأن يؤكل كل ذي ناب وكل ذي مخلب.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين:
في هذه السنة خلع المعتمد ابنه جعفر المفوض ابن المعتمد من ولاية العهد، وجعل المعتضد ابن أخيه ولي العهد بعده.
وفاة المعتمد:
وفي هذه السنة، أعني سنة تسع وسبعين ومائتين، توفي أحمد المعتضد بالله ابن جعفر المتوكل بن المعتصم، لإحدى عشرة بقيت من رجب ببغداد، وكان قد شرب على الشط وتعشى، وأكثر من الشراب والأكل، فمات ليلاً، وأحضر المعتضد القضاة وأعيان الناس، فنظروا إليه، وحمل إلى سرمن رأى فدفن بها، وكان عمر المعتمد خمسين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أيام. وكان قد تحكم عليه في خلافته أخوه الموفق، وضيق عليه، حتى إنّه احتاج إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها في ذلك الوقت، فقال:
أليس من العجائب أنّ مثلي ** يرى ما قلّ ممتنعاً عليه

وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ** وما من ذاك شيء في يديه